المادة    
الحمد الله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: أيها الإخوة والأخوات! في الحلقة الماضية والتي قبلها كان الكلام عن مقام النبوة، وكان محصوراً فيما يتعلق بالنظرة النبوية من خلال التكريم والاصطفاء الرباني للأنبياء، ومن خلال النظرة الوثنية الجاهلية الفلسفية لهؤلاء البشر المختارين من الله تبارك وتعالى. والآن نأتي على المنهج الثالث وهو ما يتعلق بالمنهج الكتابي, أي: الوحي المحرف، وما هي درجة الأنبياء والنبوة فيه؟ وفي الحقيقة إن هذا الموضوع يحتاج منا إلى أكثر من حلقة، وإلى أكثر من وقفة؛ لأهميته في تاريخ الفكر العالمي والصراع العالمي؛ لأن كثيراً من النظرات المادية والأخطاء التي وقعت في الحديث عن تاريخ الأنبياء, وفي العقائد البشرية عن الأنبياء، كانت نتيجة للجهل والتحريف الذي أصاب الكتب المنزلة، والعمل الذي عمله الأحبار والرهبان وغيرهم ممن ينتسبون إلى هذه الكتب, بمعنى: أن بعض أتباع الأنبياء هم الذين جروا البلاء والكوارث على هذه المقامات والرتب العالية؛ بما حرفوه وبما بدلوه، فهم نزلوا بدرجة الأنبياء إلى درجات الكهنة أو درجات رجال الدين من السلك الكهنوتي أو غيره؛ ليجعلوا الأنبياء يشبهونهم, بدلاً من أن يرتقوا هم بأنفسهم أو يرتقوا بالأمة إلى درجات الأنبياء، فكان ذلك التشويه سبباً وباعثاً أن يأتي المفكرون الماديون والعقلانيون وغيرهم فينفوا النبوة من أصلها. ‏
  1. آدم عليه السلام

    إذا أردنا أن نبتدئ من تاريخ النبوة الحقيقي فهو كما تقدم يبتدئ في الحقيقة من نبوة آدم عليه السلام، وقد تقدم الحديث في حلقات أولى عن المنزلة التي جعلتها الكتب المحرفة لآدم عليه السلام, ومن ثم للجنس البشري، فهي لم تثبت له من الكرامة والمنزلة ما جعله الله تعالى له، وذكرنا على سبيل المثال: أن من يقرأ الكتاب المقدس يرى أن هناك تعمداً لتجهيل آدم عليه السلام, وتجهيل الجنس البشري، بحرمانه من الأكل من شجرة معرفة الخير والشر، وتقدمت الإشارة إلى ذلك، وأثر ذلك في التفكير اليوناني والفلسفي الغربي, ومع أن الكتاب أو العهد القديم -التكوين السفر الأول منه- ذكر أن الله تعالى علم آدم أسماء كل شيء، إلا أنه لم يورد ذلك كما ورد في القرآن بنفس المستوى من السمو والعلو، ومن اختبار أو امتحان الملائكة به الذي يظهر الكرامة والمنزلة التي جعلها الله تعالى لآدم عليه السلام.
  2. نوح عليه السلام

    على أية حال لو تجاوزنا هذا إلى الأب الثاني للبشرية, فهناك نجد أن الأمر قد اتخذ شكل المأساة أو الكارثة في تاريخ الأنبياء والنبوة, والنظر إلى هؤلاء الخلق المصطفين الكرام، فإن نوحاً عليه السلام الذي هو الأب الثاني للبشرية، والذي كرمه الله تبارك وتعالى وجعله أول الرسل الكرام، والذي يحتل في العقيدة الإسلامية مكاناً مرموقاً عظيماً نظراً لهذه المكانة، وهذه المكانة تمتد إلى يوم القيامة كما جاء في حديث الشفاعة الكبرى؛ عندما يأتي إليه الناس ويقولون له: يا نوح أنت أول رسول أرسله الله تبارك وتعالى ويطلبون منه أن يشفع لهم، ثم تكون الشفاعة العظمى للنبي صلى الله عليه وسلم.
    فمنزلة نوح عليه السلام منزلة عظيمة في التصور العقدي الإيماني الصحيح؛ ولذلك نجد أن الطفل المسلم وهو لا يزال في أولى مراحله الدراسية يقرأ سورة نوح عليه السلام وأولها (( إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ ))[نوح:1], بمعنى: أن أول ما يستشعره الطفل من عظمة هذا النبي الكريم, وهذا الرجل العظيم؛ أنه رسول أرسله الله تبارك وتعالى إلى قومه, هذا المعنى غامض في التوراة, أي: بمعنى أنه نبي، والحديث عنه يأتي وكأنه رجل ذو شأن، ولكن الإرسال والنبوة والنذارة لقومه والتحذير من الشرك لا يكون بمثل المستوى القرآني؛ بل هو بعيد عن ذلك كثيراً.
    ليس هذا فقط وإنما يأتي بعد ذلك ما قلنا: إنه الكارثة أو الطامة الكبرى، وهو ما جاء في التكوين في الفصل التاسع من السفر؛ وهو أن نوحاً عليه السلام -وأنا الآن أقرأ بالنص-: كان نوح أول فلاح وغرس كَرْماً, وفي بعض الترجمات: وابتدأ نوح يكون فلاحاً.
    ثم يقول كاتب هذا الكلام والمحرِّف لكلام الله تعالى: وشرب نوح من الخمر فسكر وتعرى في خيمته؛ فرأى حام ابن نوح أبو كنعان عورة أبيه، فأخبر أخويه وهما خارجاً فأخذ سام و يافث ثوباً وألقياه على أكتافهما ومشياً إلى الوراء ليسترا عورة أبيهما، وكان وجهاهما إلى الخلف، فما رأيا عورة أبيهما، فلما أفاق نوح من سكره -كما يقول الكاتب الخبيث- علم ما فعل به ابنه فقال: ملعون كنعان! وكنعان حتى الآن غير موجود، فالثلاثة هم الموجودون: حام و سام و يافث ولكن اللعنة على كنعان لماذا؟! نرى لماذا الآن.
    قال: ملعون كنعان عبداً ذليلاً يكون لأخوته, وفي بعض الترجمات: عبد العبيد يكون لأخوته, وقال: تبارك الرب إله سام ويكون كنعان لعبداً لـسام .. إلى آخره.
    هذا الخبر الذي حقيقة تقشعر منه أبدان المؤمنين الذين يقدرون الله تبارك وتعالى حق قدره، وأنبياء الله تبارك وتعالى حق قدرهم وتعزيرهم وتوقيرهم, ويعظمون ما عظم الله، ويعظمون شعائر الله، هذا الكلام الموجود بهذا النص لم يستطع أحد من شرّاح التكوين أو الخليقة الذين شرحوا هذا السفر الأول من العهد القديم أن ينفوه، أو أن يقولوا: إن هذا مضاف أو مقحم ليس من كتاب الله، إلا عندما بدأت مدرسة النقد التاريخي في القرون المتأخرة -كما شرحنا من قبل- مجمعون وإلى الآن لا يزالون يكتبون وبعضهم من العرب -الذين شرحوا سفر التكوين- بعضهم من اليعاقبة, بعضهم من النساطرة, بعضهم من الكاثوليك .. إلى آخره.
    الكل يجمع على أن هذه القصة حقيقة, وأنها وقعت، ويجعلونها من مآثر الكتاب، يقولون: إن الكتاب المقدس كما أنه يذكر ما يعطيه الله تعالى من الكرامات أو الخوارق أو المعجزات فإنه أيضاً واقعي ينقل ما يفعله القديسون وما يفعله الصالحون بواقعية ولا ينفي ذلك عنهم.
    لكن هذا الكلام في الحقيقة إذا تأملناه ونظرنا إليه بعين البصيرة الإيمانية, وما ذكره الله تبارك وتعالى من أخبارهم في كتبه التي لم تحرف ولم تبدل، فإننا نجزم قطعاً أن هذا لا يمكن أن يصدر عن نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
    نحن لا يمكن أن نتخيل ذلك أو أن نؤمن به أو نصدقه، بمعنى: أننا لا نتردد في أن ننفي وقوع ذلك، وإنما ننتقل إلى القضية الأخرى المهمة؛ وهي: إذاً لماذا كُتب؟! أو لماذا أضيف مثل هذا الكلام إلى نبي عظيم من أولي العزم؟!
    القضية -كما أشرنا قبل قليل- هي في كلمة كنعان أو في اسم كنعان ، الشعوب المخالفة لليهود وبالذات نخص بالذكر الكنعانيين؛ لأنهم هم الشعب الذي فيما بعد قرون وبعد آلاف السنين من هذه الحكاية سوف نجد أنهم يكونون أعداء, وأنهم يتقاتلون مع بني إسرائيل، فمن هنا يمهد هذا اليهودي الخبيث الذي أضاف هذه الحكاية للعنة كنعان وبني كنعان, وأنهم فعلاً أشرار، -وهذا ما يعترف به الشراح كما ذكرنا قبل قليل- ويقول الشراح: إن هذا تمهيد من الله تعالى ليبين لكل بني آدم من الأب الثاني نوح عليه السلام الذي تفرقت منه بقية الأمم والشعوب؛ أن الكنعانيين أمة ملعونة شريرة؛ ولذلك فإن العبرانيين عندما يقاتلونهم على يد يوشع فهم في الحقيقة على الحق، ويستحق أولئك أن يطردوا، وبعد ذلك نجد في أيام إبراهيم عليه السلام أن الله تعالى يعده بكل أرض كنعان ، فيأتي التمهيد لوعد الله تعالى المزعوم عندهم, والذي قد يكون حقيقة؛ ولكن للمؤمنين، فالتمهيد لهذا الوعد لإبراهيم, وكذلك التمهيد لانتصار أو لاستحقاق الكنعانيين للإبادة التي سوف يؤمر بها يوشع -كما سوف نرى- شكل من أشكال الإبادة العجيبة الغريبة، يأتي وكأنما هو بجناية الأب القديم الذي لم يكن كنعان قد ولد بعد، ولكن لأن أباه الذي رأى عورة أبيه نوح؛ لأنه رآه ولأنه لم يستره بخلاف أخويه وما فعلا؛ فلذلك يستحق ابن هذا الابن أن يلعن، وأن يحمل اللعنة، وأن تظل اللعنة حالة به إلى أن يأتي الأحفاد وإلى آخر الزمان.
    بمعنى آخر: أننا نشاهد لوناً من العنصرية البغيضة المقيتة في النظر إلى هذه الشعوب، والكنعانيين ما هم إلا جزء أو اسم من جملة شعوب ملعونة، يلعنها كاتب التوراة جميعاً, هكذا ملعونة مطرودة من رحمة الله تبارك وتعالى، ويحاول أن يدنسها لكي تبقى الخلاصة والصفوة النقية أو شعب الله المختار هم بنو إسرائيل فقط!
    بهذا المستوى العنصري ينبغي أن يُنظر إلى هذه القصة، وأن تُعلم الأسباب النفسية لدى الشخصية أو الكاتب اليهودي الذي أضاف هذه العبارات وظل اليهود متمسكين بها.
  3. لوط عليه السلام

    ولذلك عندما ننتقل إلى قصة أخرى لا تقل عنها في الشناعة؛ بل هي أشنع منها حقيقة، فإننا نجد أيضاً أن هناك غرضاً من إيرادها ومن ذكرها، وهذه القصة أو الحادثة الأخرى هي الحادثة المنسوبة إلى لوط عليه السلام، وهي أيضاً أبعد وأفحش من أن تليق بنبي من الأنبياء.
    نأخذ العهد القديم ونقرأ ماذا قال عن لوط عليه السلام، وقبل ذلك نشير إشارة إلى أن هذا السفر في الفصل العشرين منه وفي الفقرة الثانية عشرة, ذكر قصة ينبغي لنا أن نتذكرها ونأتي عليها إن شاء الله بالتفصيل عند الكلام عن إبراهيم عليه السلام؛ وهي أن إبراهيم عليه السلام تزوج أخته! القول أو الزعم بأن سارة زوجة الخليل عليه السلام كانت أخته غير الشقيقة! وهذا يمرون عليه مرور الكرام, لا يكاد الشراح يأتون عليه إلا بسطر أو سطرين، ولكن الغرض يشبه أن يكون أيضاً توطئة للكلام عن قوم لوط, أو ما سوف يفعله لوط من بعد.
    هناك علاقة واضحة وقوية ما بين لوط عليه السلام وإبراهيم عليه السلام، والله سبحانه وتعالى ذكر ذلك في القرآن دون أن ينص على أن لوطاً ابن أخي إبراهيم؛ لكن قال: (( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ ))[العنكبوت:26]؛ فذكر الله تبارك وتعالى أن لوطاً عليه السلام كان معاصراً لإبراهيم، وأنه آمن بدعوته، وأنه هاجر معه الهجرة التي هي لله وفي ذات الله، ولم يأت القرآن على ذكر الأماكن والمواقع أو كما في التوراة عدد الأغنام وعدد الحمائل والعبيد, كل هذه لا تهم أبداً؛ لأن العبرة والعظة هي أن لوطاً عليه السلام كان نبياً مُكرَّماً، وكان على دين الخليل إبراهيم عليه السلام، أي أنه كان على الحنيفية.
    وقد ذكرنا في اللقاء الماضي أن الحنيفية التي هي دين إبراهيم عليه السلام تشمل عند علماء الإسلام بالدرجة الأولى العقيدة التي هي البراءة من الشرك وأهله، هذا بالدرجة الأولى, والحنَف أو التوجه أو الميل للتوحيد الخالص النقي الذي دعا إليه الخليل وبنى لأجله الكعبة وأوصى بها بنيه عند الموت, وأمر آخر تشمله هذه الحنيفية السمحة؛ وهي: أن هناك محرمات حرمها الله تعالى لا تليق بالأنبياء جميعاً، ونص عليها علماؤنا، فقالوا من ذلك: نكاح الأمهات أو الخالات أو القريبات. والأمر الثالث: هو شعائر وسنن الفطرة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم, وأنها من سنن أبينا إبراهيم عليه السلام, ومن أشهرها وأعظمها الختان.
    إذاً: نجد أن هناك في العقيدة الإسلامية ما ينفي نفياً قاطعاً هذا الكلام الذي ينسب إلى إبراهيم عليه السلام من جهة أن سارة كانت أختاً له غير شقيقة؛ لكن هذا كما قلنا يأتي بشكل أصرح في موضوع لوط عليه السلام، ونأتي إلى واقعة, لولا أن مقتضى البحث العلمي أن نوردها وأن نقرأها لكان الإنسان يستحي أن يوردها أو أن يتحدث عنها أو أن ينشرها؛ لكن لا بد من ذلك لبيان ما فعله هؤلاء المحرفون الذين دنسوا الأنبياء، توصلاً إلى تدنيس الشعوب المخالفة لهم, وإظهار العنصرية الحاقدة التي لا زالوا يمارسونها حتى اليوم باسم: محاربة من يعادي السامية, أو من يتكلم عن الساميين بزعمهم.
    في الفصل التاسع عشر يقول التكوين: صعد لوط من صوغر -اسم مكان- وسكن في الجبل وابنتاه معه. المهم أنه اتخذ من مغارة في الجبل بيتاً له، هنا يأتي الإشكال؛ ابتداء من الفقرة الحادية والثلاثين: وقالت البكر الصغيرة: أبونا قد شاخ -تقول لأختها- وليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض -يعني: ليتزوجنا- فقالت لأختها: هلم نسقي أبانا خمراً ونضطجع معه فنحيي من أبينا نسلاً, يعني: يكون لنا ذرية من أبينا.
    يقول في الفقرة الثالثة والثلاثين: فسقتا أباهما خمراً في تلك الليلة, ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها، ولم يعلم باضطجاعها ولا بقيامها, وحدث في الغد أن البكر قالت للصغيرة: إني قد اضطجعت البارحة مع أبي، نسقيه خمراً الليلة أيضا فادخلي واضطجعي معه فنحيي من أبينا نسلاً؛ ففعلتا في الليلة الثانية -والعياذ بالله- وقامت, وفي النهاية يقول: فحبلت ابنتا لوط من أبيهما. نعوذ بالله هذه الشناعة التي يقولها هذا الكاتب المحرف لكلام الله, ثم يقول: فولدت البكر ابنا ودعت اسمه موآب، وهو أبو الموآبيين إلى اليوم, والصغيرة ولدت ابناً دعته ابن عمي وهو أبو بني عمون إلى اليوم.